كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إن ربنا يوضح لنا: أنا أحترم شهوتك للطعام، ولتأخذ حركتُك الضروريَّ لها من الطاقة، والزائد سيُخزن في الجسم كدهون ولحم، فإن جاء يوم لا تجد فيه طعامًا أخذت من الدهون المخزونة طاقة لك. وهذه من دقة الصنعة، وإن قارنتها بسيارة صنعها الإنسان إذا ما فرغ منها الوقود فإنها تقف ولا تسير، أما صنعة الخالق فهي لا تقف إن توقف الطعام بل تستمر إلى ثلاثين يومًا، وربما حن على الإنسان قلب إنسان آخر فأحضر له الطعام، وربما احتال الإنسان ليخرج من مأزق عدم وجود الطعام.
إن المرأة العربية وصفت الشدة والعوز فقالت: «سنة أذابت الشحم، وسنة أذهبت اللحم، وسنة محت العظم» أي أن الأمر درجات، فالإنسان يتغذى من دهنه ثم من لحمه ثم من عظامه، ويصبر الإنسان على الماء مدة تترواح ما بين ثلاثة، وعشرة أيام، حسب كمية المياه المخزونة في الجسم. أما الهواء فلا يصبر عنه الإنسان إلا بمقدار الشهيق والزفير، فإن حُبس الهواء عن الإنسان مات. فالنَفَس هو أهم ضرورة للحياة، ولذلك نجد من حكمة الحق سبحانه أنه لم يملّك الهواء لأحد؛ لأن أحدًا لو امتلك الهواء بالنسبة لإنسان آخر فقد يمنع عنه الهواء لحظة غضب فتنتهي منه الحياة.
واللغة العربية فيها من السعة ومن دقة الأداء ما يدل على أن هناك أسرارا للمعاني، تلتقي عند شيء ما، فمثلًا إذا قلت: نَفْس، أو نفيس، أو نفَس، نجد أنها ثلاث كلمات مكونة من مادة واحدة هي «النون والفاء والسين»، النفْس هي اتصال الروح بالمادة فتنشأ الحياة بها، ويلهم ربنا النفس فجورها وتقواها، والنَّفَس: وهو الريح تدخل وتخرج من فم وأنف الحي ذي الرئة حال التنفس ولا تدوم الحياة إلا به، ومادام أساس الحياة هو النفَس فيجب ألا تكون حياتك إلا من أجل نفيس، ويجب أن تحترم خلق الله لك وألا يكون سعيك في الدنيا إلا من أجل نفيس، ولا نفيس إلا الإيمان.
وفي اللغة العربية أمثلة كثيرة لما يسمى بالجناس، فنحن نسمي الأكل في الميعاد «وجبة»، ونسمي المسئولية «واجبا» ونسمي دقة القلب «الوجيب». ولذلك عندما أراد الشعراء أن يتفننوا جاء واحد منهم بلفظين متماثلين ولكل منهما معنى مختلف فقال:
رحلت عن الديار لكم أسير ** وقلبي في محبتكم أسير

فأسير في الشطر الأول يمعنى أمشي، وأسير في الشطر الثاني من البيت بمعنى مأسور ومقيد.
فالمنخنقة إذن هي التي منع عنها النفس، ومادام مَنْع النفس أوصلها إلى الخنق فهي إلى الموت، فلماذا جاء ذكرها مرة أخرى بعد الميتة؟ لقد جاء ذكر المنخنقة لأن الإنسان قد يلحقها بالذبح، فإن سال منها دم، وطرفت فيها عين أو تحرك الذيل فهي حلال. أما إن لم يلحقها الإنسان وذبحها ولم يسل منها دم فهي حرام، ويحرم الحق الموقوذة، وهي البهيمة التي يتم ضربها بأي شيء إلى أن تصل للموت، فهي قد ماتت، بنقض بنية وكذلك المتردية التي وقعت من ارتفاع حتى ماتت، وكذلك {والنطيحة} أي التي نطحها حيوان آخر إلى أن ماتت. {وَمَا أَكَلَ السبع} وهو ما يبقى من أكل السبع من لحم ما افترسه من حيوان مأكول، {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}، والذكاة هي الذبح الذي يسيل منه الدم وتأتي بعده حركة من المذبوح. والمقصود بقوله: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} هو المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، فإن أدركها الإنسان وذبحها وسال منها دم وصدرت منها حركة فهي حلال.
هذا هو رأي علي بن أبي طالب- كرم الله وجهه- وهو مفتي الإيمان. وابن عباس رضي الله عنه وهو حَبْر الأمة قال- أيضا- في قوله الحق: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} هو استثناء لغير الميتة والدم ولحم الخنزير ومقصود به المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة. وهذا يوضح لنا أن هناك حيوانات شرسة قد لا يقوى الإنسان عليها. وأحيانًا قد يقدر الإنسان عليها فيقوم بتكتيفها بالحبال، وأحيانا يضربها بآلة لتختل وتضعف قليلا ويتملكها الجزار ليذبحها.
ونلاحظ أن الحق لم يحدد الحيز من الجسم الذي أصيبت فيه الموقوذة سواء أكان البطن أم الرأس أم الظهر، فالحيوان المضروب رميا بالحجارة قد تأتي الأحجار في الرأس أو البطن أو الظهر، فمن الجائز أن يضرب الإنسان الحيوان الشرس ليستطيع أن يذبحه.
والحجة عندنا في التحليل أو التحريم هي: أيسيل منها الدم ساعة الذبح أم لا؟ وهل يصدر عن جسمها حركة ولو طرفة عين؟ فإن توافر ذلك في الذبيحة فهي حلال، وهكذا نعرف أن قوله الحق: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} هو استثناء لغير الثلاثة الأول وهي: الميتة والدم ولحم الخنزير ومعها ما أهل لغير الله به لأنه محرم بطبيعة الإيمان العقدي.
{وَمَا أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} ويحرم الحق ما أكله السبع إلا إذا كان الحيوان الذي أكله السبع لم يمت واستطاع واحد أن يذبحه الذبح الشرعي. وسبحانه يحريم ما لم يذبح بالأسلوب الشرعي، فلا يحل ذَبْح بعظم أو بِسِنّ والذي ذبح على النصب، أي المذبوح على الأحجار المنصوبة كالأصنام فهو حرام، والكلام هنا عقدي، والتحريم هنا بعارض عقدي.
و{النُّصُب} من الألفاظ التي وردت مفردًا ووردت جمعًا. ف «نصُب» هي جمع، مثلما نجمع كلمة «حمار» ونقول «حُمُر»، وفي هذه الحالة يكون مفردها «نِصاب»، ومرة تكون «نصب» مفردًا، مثلها مثل «طُنُب» وهو الحبل وجمعها «أطناب» أي حبال، وفي هذه الحالة يكون جمع «نُصُب» هو «أنْصَاب».
والنُّصُب هي حجارة كانت منصوبة حول الكعبة يذبح عليها المشركون الذبائح تقربًا للآلهة. والتحريم هنا بسبب عقدي مثله مثل تحريم ما أهل لغير الله به، فما أهل لغير الله فيه شرك بالله فافتقد ذكر الله الذي ذلل للإنسان هذا الحيوان القريب من الإنسان في الحس والحركة وغير ذلك. وكذلك أيضًا ما ذبح على النصب محرم؛ لأن النصب غير واهب ولا معط، والواجب أن نتقرب إلى الواجد الواهب.
{وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام} واستسقم أي طلب القسمة، وكانت القسمة في بعض الأحيان عملية محرجة فيريدون إلصاقها بعيرهم، وهنا يقال: «إن الأزلام هي التي أمرتني». والأزلام هي قداح من الخشب مكتوب على بعضها: «أمرني ربي» ومكتوب على البعض الآخر: «نهاني ربي» وبعض من هذه القداح غفل بغير كتابة. وكان المشرك إذا أراد السفر فهو يذهب إلى سادن الكعبة أو الكاهن، ويخرج السادن أو الكاهن الأزلام من الكيس، ويحرك القداح ويختار المشرك قِدْحًا، فإن قرأ عليه «أمرني ربي» يسافر إلى المهمة التي يريدها، وإن لم يقرأ عليه ووجده غفلا فهو يعيد الكَرَّةَ؛ فإن وجد «نهاني ربي» لا يسافر.
ونسأل: من هو الرب الذي أمر؟ هل هو الرب الأعلى، أو الرب الذي كانوا يعبدونه؟ أي إله كانوا يقصدون؟ إن كان المقصود به الإله الأعلى، فمن أدراهم أن الله أمر بهذا السفر أو نهى عن ذلك السفر؟ إن ذلك كذب على الله. وإن كان الذي أمر هو الرب الذي يعبدونه، فهذا أمر باطل من أساسه، إذن ف «استقسم» أي أنّه طلب حظه وقسمته بواسطة القداح. وكان الاستقسام يتم في مسائل الزواج أو عدم الزواج، والكلام هنا في هذه الآية عن الأكل؛ فالسياق عن تحليل ألوان الطعام فلماذا هذا الاستقسام؟
من هذا نعرف أنهم كانوا في الجاهلية يخضعون للون من الاستقسام بالأزلام، كانت عندهم عشرة قداح وكان مكتوبا عليها أسماء، فواحد على سبيل المثال مكتوب عليه «الفذ» وعليه علامة واحدة.
أي أن الذي يسحب هذا القدح يأخذ نصيبا واحدًا؛ أما المكتوب عليه «التوأم» فيأخذ نصيبين، والمكتوب عليه «الرقيب» يأخذ ثلاثة أنصباء، والمكتوب عليه «الحِلس» يأخذ أربعة أنصباء، والمكتوب عليه «النافر» يأخذ خمسة أنصباء؛ والمكتوب عليه «المُسْبل» يأخذ ستة أنصبة، ووالمكتوب عليه «المُعلّي» يأخذ سبعة أنصبة، والباقي ثلاثة أنواع مكتوب على كل واحد منها إما «المنيح» وإمّا «السفيح» وإمّا «الوغد».
وعندما يقومون بذبح الجمل كانوا يقسمونه إلى ثمانية وعشرين نصيبًا بعدد الأنصبة التي ينالها الأشخاص السبعة الأوائل، أما من خرج لهم «المنيح» أو «السفيح» أو «الوغد» فلا نصيب لهم ويدفعون ثمن الذبيحة.
إذن فقوله الحق: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام} أي أن مسألة طلب القسمة بواسطة الأزلام هو أسلوب مجحف وحرام، وهو لون من الميسر، والاستقسام بالأزلام خلاف القرعة، فالقرعة تكون بين اثنين متساويين ولا يريد أحدهما أن يظلم الآخر، فيخرجا الهوى من الاختيار.
مثال ذلك: اثنان من البشر يملكان بيتًا، وتحري كل منهما العدل في القسمة ويلجآن إلى القرعة بأن يكتب كل منهما اسمه في ورقة ثم يضعا الورقتين في إناء ضيق ويحضر طفل صغير لا يعرف المسألة ويغمض عينيه ويشد ورقة من الاثنتين، فيأخذ كل واحد النصيب الذي حددته القرعة.
ومثال آخر: الرجل المتزوج بأكثر من واحدة، عليه أن يقرع بين النساء إن أراد صحبة إحداهن في سفر، والقرعة هنا حتى لا تغضب واحدة من الزوجات، وحتى لا يكون الهوى هو الحكم، وبذلك يخرج من دائرة لوم مَن لا تخرج قرعتها.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، فعندما أراد صلى الله عليه وسلم ألا يكسر خاطر أي واحد من الأنصار عندما هاجر إلى المدينة، وتطلع كل واحد من الأنصار إلى أن ينزل رسول الله في بيته، وحاول كل واحد أن يمسك بزمام الناقة وأن يجعلها تقف أمام بيته، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلوا سبيلها فإنها مأمورة».
فعندما تميل الناقة وتقف عند أي بيت لن يقول أحد: إن النبي آثر فلانًا على فلان. جعلها الرسول في يد من لا يقدر أحد على ان يخالفه عليه، وكذلك فالاستخارة غير الاستقسام. إذن فالاستقسام بالأزلام هو المحرم شرعًا؛ لأنها عملية غير مناسبة وهي ظالمة، ووردت هنا في سياق ألوان الطعام.
ويقول سبحانه عن كل تلك الألوان من المحرمات؛ إنَّ ارتكابها فسق. {ذلكم فِسْقٌ} والفسق هو الخروج عن الطاعة. والمعاني- كما علمنا من قبل- مأخوذة من المحسّات؛ لأن إلف الإنسان في أول إدراكاته بالمحسات، فهو يرى ويسمع ويشم، وبعد ذلك تأتي الأمور العقلية.
وأصل الفسق هو خروج الرطبة عن قشرتها؛ فالبلحة عندما تترطب تنكمش الثمرة داخل القشرة وتخرج منها عندئذ يقال: «فسقت الرطبة» أي خرجت من قشرتها، وكذلك من يخرج عن منهج الله يسمونه فاسقًا؛ تمامًا مثل الرطبة، وفي هذا رمزية تدل على أن شرع الله سياج يحيط بالإنسان؛ فالذي يخرج عن منهج الله يكون فاسقًا. وإياك أيها المسلم أن تخرج عن شرع الله؛ لأن الرطبة عندما تخرج عن القشرة فالذباب يحوم حولها ويصيبها التراب وتعافها النفس، فَكَان دين الله كإطار يحمي الإنسان بالإيمان.
وهذه الأحكام كلها تبني قضية الدين، قضية عقدية في الألوهية، قضية البلاغ عن الألوهية بواسطة الرسالة. وأحكام تنظم حركة المجتمع بالعقود والأمانات والأنكحة وغيرها، كل هذه الأحكام تصنع هيكل الدين العام. وقد مر هيكل الدين العام بمرحلتين: المرحلة المكية وكان كل هدفها التركيز على العقيدة والإيمان بوحدانية الله والنبوات والبلاغ عن الله، وبعد ذلك في المرحلة المدنية جاءت سورة النساء وسورة المائدة لتتكلما عن الأحكام.
وبالعقيدة وبالبلاغ عن الله وبالأحكام يكتمل الدين؛ لذلك يقول الحق: {اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} كأن الكافرين كان لهم أمل في أن يحبطوا هذا الدين وأن يبطلوه وأن ينقضوه، وكذلك المؤمنون بأديان سابقة أو بكتب سابقة كانوا يحبون أن يطرأ على القرآن الأفعال التي مارسوها مع كتابهم من النسيان والترك والتحريف، وسبحانه هو القائل عن أصحاب الكتب السابقة: {وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} [المائدة: 13]
إذن فقد أرادوا أن ينسى المسلمون- أيضًا- حظًا من القرآن، لكن الحق يخبر بأنهم يئسوا أن ينسى المسلمون حظا مما ذكروا به؛ لأن الصحابة حفظوا القرآن في الصدور وكتبوه في السطور ومن لسان الرسول مباشرة. ولم يحدث مثلما حدث مع الرسل السابقين. فقد تم تسجيل هذه الكتب المنزلة عليهم بعد ثلاثة أو أربعة قرون، بل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بكتابة القرآن من فور نزول كل نجم من الآيات، وكان يأمر بوضع الآيات بترتيب معين.